الأمير بن سلمان، ولي العهد اتّبع سياسة “الصّدمة” في إدارة شّؤون الدولة، و………
شبكة المدى/ عبد الباري عطوان:
السعوديّة تَستوعب مَخاطِر الدّرس الإيراني وتَتحرّك لامتصاصِ الاحتقان الشعبيّ قَبل انفجارِه.. صَرفْ 52 مِليار ريال لمُوظّفي الدّولة والمُتقاعدين هل يُحقّق أغراضه؟ وماذا يَعني اعتقال 11 أميرًا تَظاهروا أمام قَصر الحُكم في الرّياض احتجاجًا؟ وهل بَدأ “التّملمُل” على أعلى المُستويات.
يَكَن مُفاجِئًا، أو من قبيل الصّدفة، أن تتزامن قرارات العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز بإنفاق 52 مليار ريال سعودي لأكثر من مِليون ومِئتي ألف مُوظّف في الدّولة، ومِثل هذا العدد من المُتقاعدين كبدل غلاءِ معيشة، مع المُظاهرات المُندلعة مُنذ عشرة أيّامٍ تقريبًا في أكثر من 70 مدينة وبلدة إيرانيّة، احتجاجًا على غَلاءِ المَعيشة وإنفاق الحُكومة الإيرانيّة مِليارات الدولارات دَعمًا لحَركاتٍ سِياسيّة في اليمن ولبنان وسورية وقطاع غزّة، فلا بُد أنّه، أي العاهل السعودي، أراد أن يُقدِم على هذهِ “الخُطوة الاستباقيّة”، لتَجنيب بِلاده احتجاجاتٍ مُماثلة، خاصّةً بعد ظُهور مُؤشّرات كثيرة في هذا الصّدد على وسائل التواصل الاجتماعي تُؤكّد أن الانفجار باتَ وَشيكًا، ووجود “بَعض” التّشابه في الحالتين الإيرانيّة والسعوديّة.
العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز أقدمَ على الخُطوة نَفسِها عام 2011 لتَحصين مَملكتِه من “ثورات الربيع العربي” التي اندلعت في خَمسِ دُولٍ عربيّة هي (مصر، سورية، اليمن، تونس، ليبيا)، حيث أنفق 120 مليار دولار كمُساعدات ماليّة عاجلة، وإلغاء قُروض إسكان، ودَعم الشباب، والعاطلين عن العمل، ومُضاعفة المِنح الدراسيّة في الخارج، ونَجحت هذهِ الخُطوة في امتصاصِ النّقمة، وتَهدئة الشّارع السعوديّ، ومَنع انفجارِه.
الاحتجاجات الإيرانيّة التي بَدأت في مَدينة مشهد، ثاني أكبر مُدن في البِلاد، انفجرت بسبب ارتفاع سِعر البيض، وغلاء المَعيشة بشَكلٍ عام، وتَطوّرت إلى المُطالبة باستقالة الرئيس الإصلاحي حسن روحاني، لفَشله في تَنفيذ الوعود بتَحقيق الرّخاء ومُحاربة الفَقر والفساد، ووَقف سِياسة ضَخ المِليارات في لبنان وسورية واليمن وقِطاع غزّة، وكان من المُمكن أن يُؤدّي قرار الحُكومة السعوديّة برَفع سِعر البنزين، وفَرض ضريبة القيمة المُضافة ابتداءً من أوّل العام الجديد إلى احتجاجاتٍ مُمثّلة بالنّظر إلى حالةِ التذمّر التي سَبّبتها في أوساط المُواطِنين، وانعكست في “هاشتاغات” على وسائِط التواصل الاجتماعي، أبرزها “الرّاتب لا يَكفي”.
***
ما زال من المُبكِر التكهّن بالآثار المُتوقّعة لهذهِ القرارات السعوديّة على المُواطِنين، وقُدرَتها على امتصاصِ حالة الاحتقان الرّاهنة، ولكن ما يُمكن قَوله في هذهِ العُجالة، أنّها أحدثت بعض الّنتائج الإيجابيّة، وأثارت حالةً من الارتياح على المدى القصير، وامتصّت بَعض الاحتقان ولو مُؤقّتًا، ولكن يجب التذكير أن سَقفها الزّمني عام واحد فقط، أي أنّها مُؤقّتة، وليست دائمة، إلا إذا جَرى تمديدها بعد نِهاية العام الحالي، وهذه مَسألة تحتاج إلى ميزانيات، ودُخول إضافيّة لميزانيّة الدولة التي تُعاني من عُجوزاتٍ ضَخمة طِوال السّنوات الثلاث الماضية، ويَبلُغ عَجز ميزانيّة العام الحالي 200 مليار ريال، ومن المُتوقّع أن يَرتفع في ظِل مَبالغ التّعويضات الحاليّة غير المحسوبة والطّارئة.
من المُؤكّد أن صانع القرار السعودي توصّل إلى معلوماتٍ مُؤكّدة من “العسس″ و”البصاصين” بوجود “تململ” شعبي من جرّاء غلاء المَعيشة، وبَعض جوانب السياسات الخارجيّة المُكلفة جدًّا ماليًّا وبشريًّا، وأبرزها ضَخ عَشرات المِليارات في حُروب خارجيّة مثل الحَربين في سورية واليمن، وتَقديم مُساعدات ماليّة بأكثر من ثلاثين مليار دولار لمصر وحدها، ناهيك عن تكاليف حرب اليمن التي تُوشِك إكمال عامها الثالث، والإعلام السعودي الذي احتفى بمطالب المُحتجّين الإيرانيين بوقف تدخّلات حُكومتهم وحرسها الثّوري في حُروب سورية واليمن وغزّة، نسي أن حُكومة بِلاده تُنفق عَشرة أضعاف ما أنفقته إيران في الحُروب نَفسها في البَلدين نَفسيهما، باستثناء دَعم المُقاومة في قِطاع غزّة.
إنفاق 52 مليار ريال (الدولار يساوي 3.7)، لتعويض الشعب السعودي عن حالة غلاء المعيشة، وتخفيض مُعاناته، حسب تغريدة للسيد سعود القحطاني، المُستشار السياسي والإعلامي للديوان الملكي، يَظل مَبلغًا مُتواضِعًا بالنّسبة لنظيره الذي أنفقه العاهل الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز، مع الاعتراف بأن حظ الاخير كان أفضل، لوجود احتياطات ماليّة للمملكة في عهده تزيد عن 800 مليار دولار، ووصل أسعار برميل النفط إلى 120 دولارا للبرميل، فالمُشكلة الأساسيّة التي أدّت إلى غلاء المَعيشة هي سياسات الحُكومة في رَفع الدعم عن المحروقات والسّلع الأساسيّة الأُخرى مثل الماء والكهرباء، وفَرض ضريبة القيمة المُضافة لأول مرّة في تاريخ المملكة، وزِيادة ضَخمة في رسوم المُعاملات الحُكوميّة وتكاليف السفر والضرائب الخفيّة الأُخرى، وإذا لم يتم التّعاطي مع المَرض الاساسي، وليس أعراضه الجانبيّة فقط، فإنّ خَطر الاحتجاج سيَظل قائِمًا إن لم يَكُن هذا العام، فالأعوام المُقبلة.
العاهل السعودي الذي يحتفل هذهِ الأيّام بإكمال ثلاث سنوات لتولّيه العرش، أقدم على إجراء تغييرات هيكليّة اقتصاديّة وسياسيّة وعَسكريّة ضخمة، أبرزها إطاحة وليين للعهد، وتكريس وراثة الحكم عموديًّا في أُسرته بتعيينه الأمير محمد وليًّا للعَهد، وإقدام الأخير على إجراءات تحديثيّة غَير مَسبوقة، مثل السّماح للمرأة بقِيادة السيارة، ودُخولها قِطاع الوظائف، ووضع “رؤيّة” اقتصاديّة طويلة الأمد تُقلّل الاعتماد على النفط كمَصدر وحيد للدّخل، وتُخصّص أُصول الدّولة الاستراتيجيّة، مثل شركة أرامكو، ولكنّه في الوقت نفسه، أضعف مُؤسّسات الدولة الأساسيّة مثل المُؤسّسة الدينيّة، ومُؤسّسة الأُسرة الحاكمة، مِثلما أضعف “الدولة الريعيّة” أو Welfare State ، التي تُوفّر الرّخاء والاستقرار للمُواطن مُقابل تَركه شُؤون الحُكم للأُسرة الحاكمة، وعدم المُطالبة بقِيام أي مُؤسّسات تشريعيّة أو رقابيّة.
الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد اتّبع سياسة “الصّدمة” في إدارة شّؤون الدولة، والإطاحة بكل مُنافسيه، مثل أُمراء الصّف الأول (محمد بن نايف، ومتعب بن عبد الله، الوليد بن طلال)، ومرّت قرارات الإطاحة هذه دون أي مشاكل حقيقيّة، الأمر الذي شجّعه على اعتقال أكثر من 11 أميرًا ومِئتين من كِبار رجال الأعمال بتُهم الفساد، ولكن أعراض “اليوم التالي” بَدأت في الظّهور تِباعًا.
***
مَفعول “الصدمة” بَدأ يتآكل في رأي الكثيرين داخل المملكة وخارجها، وبشكلٍ أسرع من المُتوقّع، فاعتقالات الأُمراء ورجال الأعمال الكِبار بدأت تُعطي بعض النتائج العكسيّة على سُمعة المملكة وهَيبتها واستقرارها الاقتصادي والسياسي، رغم الشعبيّة الكبيرة التي حَظيت بِها في أوساط الشباب، خاصّةً أن بعضها لم يَكن مَدروسًا “بشَكلٍ مُعمّق”، والإفراج عن إبراهيم العساف، وزير الدولة الحالي والماليّة السابق بعد اعتقالِه بتُهمة الفساد وعَودته إلى مِقعده الوزاري، أثارت العَديد من علامات الاستفهام، كما أن الاعتراضات من بعض الدّول الغَربيّة على احتجاز أُمراء وشخصيّات مِثل سعد الحريري، والوليد بن طلال، وصبيح المصري، أحرجت نِظام الحُكم في المملكة، وكَشفت عن سوء تَقديره، إلى جانِب تَسرّعه.
اعتقال الأمن السعوديّ لأكثر من 11 أميرًا، احتجّوا أمام قصر الحُكم في الرياض اليَوْمْ (السبت) لأسبابٍ ما زالت غامِضة، والزّج بِهم في سِجن الحائر تَطوّر خطير، ورِسالة واضِحة تُفيد بأن حالة “التّملمُل” وصلت إلى الأُسرة الحاكِمة، أو بعض أُمرائِها، الأمر الذي يَحتاج إلى “صَحوةٍ” و”تَحرّكٍ” مَدروس لمُواجهة هذهِ الظّاهرة وتَطويقِها قبل أن تتحوّل إلى كُتلة ثلج تتدحرج وتتضخّم ويَصعُب وَقفها.
القرارات الملكيّة السعوديّة بِصَرف مَعوناتٍ عاجِلة للمُوظّفين لتَعويضهم عن آثارِ الغَلاء المَعيشيّ السلبيّة، خُطوةٌ جيّدة، ولكن مَفعولها يَظلْ مُؤقّتًا، وقد تتبخّر بسُرعة إذا لم تتبعها خَطوات، وحُلول جَذريّة سريعة، أبرزها الإصلاح السياسيّ ومُكافَحة حقيقّية للفَساد، وإشراك المُواطن في إدارة شُؤون بِلاده بشَكلٍ أكثر جِديّة، وأجراءِ مُراجَعةٍ مُعمّقة في بَعض سِياسات المملكة الداخليّة والخارجيّة بشفافيّة حقيقيّة، والاستفادةِ من تَجارب دُول الجِوار، وعلى رأسِها التّجربة الإيرانيّة قَبل فواتِ الأوان.